في السنوات الأخيرة تجاوزت ممارسات شركات التكنولوجيا العالمية كل الحدود الأخلاقية دون رقيب أو حسيب، خصوصاً تلك التي تدير منصات التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت ممارساتها تكاد تكون تعريفاً لأشكال جديدة من الجريمة..
ما بين انتهاك فاضح لخصوصية المستخدمين، وتتبعهم، والتجسس عليهم، مروراً بالخداع والتلاعب واستخدام الحيل السيكولوجية لدفع المستخدمين نحو إدمان البقاء على هذه المنصات لفترات طويلة، ودون أي اعتبار للآثار المترتبة على ذلك، سواء على الأفراد أو المجتمع ككل، ووصولاً لاستخدام موقعها المتنفذ والمهيمن في أن تفرض على المستخدمين سياسات جائرة شديدة الإزعاج لمجرد حصد المزيد من الأرباح.
ورغم ذلك، تبقى الجريمة الأخطر هي حالة تزييف الوعي والإدراك للواقع التي تتسبب بها من خلال فرض رقابتها على المحتوى، وفرض أجندات سياسية وفكرية بعينها، باستخدام الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بطرق غامضة، وبذرائع مختلفة مثل محاربة العنف والكراهية، حيث تقوم بقمع حرية التعبير والرأي لمستخدميها وقمع أية آراء لا تتوافق مع الأجندات السياسية التي تتبناها هذه الشركات بشكل رسمي أو غير رسمي، في مشهد يذكِّرنا بقصة الأخ الأكبر في رواية 1984، ولكنَّه يذكرني أكثر بأفعال الكنيسة الأوروبية في القرون الوسطى. فقد أصبحت هذه المنصات تلعب دور الشرطة الفكرية التي تقرر المسموح والممنوع قولُه، في تعدٍ سافرٍ على الحق الأصلي لكل فرد بالتعبير عن رأيه بحرية.
بشكل عام، فإن الحل الجذري لكل هذا هو ولادة منصات تكنولوجية جديدة قائمة على نماذج تجارية مختلفة أكثر أخلاقية، فمجرد وجود منصات جديدة ضمن نفس النماذج التجارية الحالية لن يسمح لها بمنافسة هؤلاء الكبار دون الانزلاق لنفس ممارساتهم، والمحصلة مزيدٌ من نفس الإجرام. إلا أن ولادة ونمو مثل هذه النماذج التجارية الجديدة ليس أمراً يمكن تحقيقه في يوم وليلة، بل يحتاج إلى سنوات طويلة كي تنمو هذه النماذج وتنضج، خصوصاً في ظل المناخ الاقتصادي والثقافي السائد حول العالم في وقتنا هذا. وبالطبع لا يمكن التزام الصمت كل تلك السنوات على أمل نضوج مثل هذه النماذج التي لم تولد حتى بعد، في الوقت الذي تُدمِر فيه حرفياً ممارسات هذه المنصات الآن بناء المجتمع، وتقطع أواصره، وتدفعه نحو الهاوية دون مبالغة.
في الوقت نفسه، ورغم بعض المجهودات الخجولة على الصعيد القانوني هنا وهناك لتحجيم هذه الممارسات الإجرامية، فإنها وإن كانت وسيلة مفيدة، فإنها عاجزة أيضاً عن إحداث تغيير جذري في سلوك هذه المنصات التي تحتمي خلف ثغرات وفجوات قانونية لا آخر لها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، في الوقت الذي تنعدم فيه أي رغبة سياسية حقيقية حول العالم لمعالجة هذا الوضع لأسباب يطول شرحها، بل وربما لا تخفى على الكثيرين. بل إن الأسوأ هو أن بعض هذه الممارسات مثل الرقابة على المحتوى، لا تحظى فقط بدعم جهات سياسية واقتصادية متنفذة، خصوصاً في الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية، بل إن هذه المنصات تخضع بذاتها لضغوط من تلك الجهات لممارسة المزيد من هذه الرقابة المجحفة. وقد رأينا خلال السنوات الأربع الماضية عدداً كبيراً من الأمثلة على فجاجة هذه الممارسات في مناسبات وقضايا عدة، حيث كان هناك التواطؤ على إخفاء الحقيقة، وتقديم السيناريو البديل الذي يريدونه، منتزعين مني ومنك حقنا الأصيل في أن نعرف الحقيقة كاملة، ونقرر بأنفسنا ما نراه الصواب وما نراه الخطأ. وسواءً كانت ميولك يمينية أو يسارية أو ممن يقفون في الوسط، فمن المؤكد أنه قد طالك شيء من ذلك في وقت ما. إننا جميعاً كمستخدمين ضحايا لهذه الممارسات بغض النظر عن الاتجاه الفكري الذي يتبناه أي منا.
فهل هناك حلٌ لإيقاف هذه الجرائم التي تتشكل وتقع أمام أعيننا يوماً بعد آخر، في حين نقف نحن كأفراد ومستخدمين نشاهد عاجزين حتى عن إظهار الامتعاض الجدي من كل هذا؟
على مدى السنوات الماضية، تجددت من وقت لآخر الدعوات لمقاطعة بعض هذه المنصات هنا وهناك، ولكن ثبت دون أي مجال للشك فشل هذه الفكرة على أرض الواقع بسبب التغلغل الشديد لهذه المنصات في حياتنا، حيث بات من المستحيل على الكثيرين حرفياً الاستغناء الكامل عنها، وهو ما يبقينا رهائن لنزوات مشغلي هذه المنصات وأطماعهم وأهوائهم.
ورغم كل ما سبق، فإنني أزعم أنه ما يزال بإمكاننا كأفراد ومستخدمين أن نجبر هذه المنصات على إحداث تغيير جوهري في ممارساتها تلك، ولكن ذلك يحتاج إلى منظور جديد، واستراتيجية واقعية فعَّالة ومدروسة، لا تعتمد على هبَّة غاضبة مؤقتة وعابرة، بل على رؤيا تضع في اعتبارها أهمية عامل الوقت، وطبيعه الناس والمستخدمين، وحدود قدراتهم، وما يمكن لكل شخص فعله فعلاً، وما لا يمكن للناس تَحمُله. استراتيجية تتوافق مع ما يحتاج إليه الناس بدل أن تكون مجرد عوائق وقيود تتسبب لهم بمصاعب في حياتهم اليومية وتدفعهم في النهاية للاستسلام رغم أنوفهم.
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ هذا ما أتمنى أن أجد فرصة للحديث عنه في يوم ما قريباً إن شاء الله.