مع دخول عام 2021، وتزامناً مع قدوم إدارة الرئيس بايدن الى البيت الابيض، توالت التغيرات في المشهد السياسي في الشرق الاوسط بوتيرة متسارعة وأحياناً مفاجئة. بعض المحللين عزا السبب في ذلك إلى التبعات الاقتصادية لأزمة كورونا، ويُصرُّ آخرون حتى يومنا هذا على أن الأمر راجعٌ إلى رغبة الإدارة الأمريكية في إعادة ترتيب الصفوف وترتيب أوراقها في المنطقة استعداداً لمواجهة مرتقبة مع أحد قطبي الشرق أو كلاهما. ورغم أن كلا الأمرين صحيحٌ بقدر ما، إلا أنهما لا يكفيان لتفسير حدة هذه التغيرات وسرعتها، بل وأحياناً ماهيتها التي تبدو معاكسة للمصالح الأمريكية في المنطقة. فما الذي يحدث فعلاً؟
تجنباً للإطالة، دعنا نُلخص الأمر في أنه ردةُ الفعل على الأجندة السياسية لإدارة الرئيس بايدن. فمن بيدهم مقاليد الأمور في المنطقة أدركوا سريعاً طبيعة هذه الأجندة التي تحمل في طياتها تغييرات راديكالية على مختلف الأصعدة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
فمن ناحية، لا يرغب أيٌ منهم في أن يكون طرفاً في المواجهة المرتقبة بين الشرق والغرب والتي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وجميعهم يُفضل أن يكون على الحياد في أسوأ السيناريوهات، ويتمنى في أفضلها أن تكون الإشارات الصادرة من تحركاتهم عاملاً مُثبِّطاً يدفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة حساباتها بشأن تلك المواجهة أيا كانت طبيعتها، سواء كانت اقتصادية في القراءات المتفائلة، أو عسكرية من وجهة نظر المتشائمين.
أما فيما يتعلق بالجوانب الأخرى لهذه الأجندة الأمريكية، فرغم غموض الموقف الحقيقي لمن بيدهم مقاليد الأمور من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع باتجاهها إدارة الرئيس بايدن بقوة، فإنهم وبافتراض تأييدهم لها أو على الأقل عدم معارضتهم لها، فإنهم على الأقل غير مرحبين ولا مستعدين للسير فيها بالوتيرة السريعة التي تضغط الإدارة الأمريكية وتحاول فرضها بها. ناهيك عن أنه من المؤكد أن جزءاً منهم على الأقل رافضٌ تماماً لهذه الأجندات سواء لأسباب متعلقة بالبنية الاقتصادية لدولهم والقائمة بشكل رئيسي على الطاقة الأحفورية، أو لأسباب دينية تعارض تلك الأجندات الاجتماعية والتي حتى لو رضخوا لها فإنها ستثير غضب الاجنحة المحافظة في الحكم، ناهيك عن الغضب الشعبي الذي هو أصلاً في مرحلة مقلقة لهم، وفي تزايدٍ مستمر لأسباب متعددة.
ولكن في الوقت نفسه فإن الجميع يدرك أنه رغم كل شيء، فإن الولايات المتحدة تبقى ممسكة بالكثير من مفاتيح اللعبة في المنطقة، وأنه ليس من مصلحة أحدٍ منهم الوقوف بمواجهتها، ولذا فقد كان عليهم اتخاذ ردة فعل متوازنة ومحسوبة، تؤمِّنُ مصالحهم دون أن ترفع غضب الإدارة الأمريكية إلى مستوى لا يحمدون هم عقباه. فمن ناحية بدأت حركة مُتسارعة لمد جسور التعاون الاقتصادي مع الشرق لتخفيف تأثير نفوذ الولايات المتحدة عليهم ولو جزئياً، وليكون ذلك أيضاً ذريعة لموقف الحياد المنشود إذا ساءت الأمور بين الشرق والغرب، والأهم أن يكون غطاءً لمستوى منخفض من التقارب السياسي والعسكري مع القوى الشرقية، والذي قد يستثير حفيظة الإدارة الأمريكية دون أن يصل بها إلى الغضب الحقيقي. وترجع رغبتهم في مثل هذا التقارب إلى أنهم من خلال تاريخ طويل تعلموا أن الولايات المتحدة حليفٌ لا يمكن الاعتماد عليه، في مقابل مستويات عالية من الدعم أبدتها القوى الشرقية وخاصه روسيا لحلفائها عند الضرورة. وليس سراً داخل الدوائر الدبلوماسية أن الولايات المتحدة حليفٌ لئيمٌ يقف معك فقط حين تقتضي مصالحه ذلك، ويسارع إلى طعنك في ظهرك دون تردد حين تقتضي مصلحته ذلك، مستنداً إلى قوته وحاجتك إليه وعجزك عن الرد. وحتى أوروبا أقرب حلفاء الولايات المتحدة طالما أظهرت امتعاضها من ذلك، وكان آخرها الاحتجاجات الأوروبية على استغلال الولايات المتحدة لحرب أوكرانيا لتحقيق مصالحها الاقتصادية على حسابهم.
بالطبع فإن لذلك التقارب مع الشرق ثمنه، والذي كان بعضه مثيراً لحفيظة الشعوب كالتقارب مع النظام السوري، ولكنه بالتاكيد أقل كُلفةً لهم كثيراً مما قد يحدث لو استمرت عجلة الأجندة الامريكية تدور بالسرعة التي تريدها إدارة الرئيس بايدن.
وللتكفير عن ذنبهم ذاك، فان المحاولات لطلب رضاء البيت الابيض لا تتوقف رغم كل شيء، تارة طبعاً بتقديم قرابين المحبة والتقارب مع طفلتها المدللة إسرائيل، والتي للمفارقة تغرق في صراعتها السياسية الداخلية بمستوى يحدث لأول مرة منذ تاريخ إعلانها، وتارة أخرى من خلال الاستجابة الجزئية للرؤية الأمريكية بخفض التوتر في المنطقه، والذي إذا أخذنا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية بعد أزمة كورونا كما يراها المُحللون مع كل ما سبق، فلن يكون غريباً أنهم خلصوا جميعاً إلى أنه من الأفضل تصفير الصراعات مع دول الجوار لامتصاص غضب البيت الأبيض من ناحية، والاستفادة من المصلحة المشتركة لهم جميعاً في عرقلة أجندات قاطنيه حالياً والنأي بالنفس عنها، وتبادل الدعم في مواجهه ضغوط الإدارة الأمريكية الآن، ولاحقاً إذا ما تصاعدت الأمور.
وحتى إذا تغير سكان البيت الأبيض بعد قرابة عام ونصف من الآن فلن يكون ذلك كافياً لعكس المشهد، فقد بدأت الولايات المتحدة تفقد بعض نفوذها في المنطقة شاءت أم أبت، ولن يكون من السهل عليها تعويض ذلك.
وأخيراً، فإنه تجدر الإشارة إلى أن ما قيل هنا عن الدول، يصح أن يقال نفسه عن الجماعات والأحزاب.